مهدي القيسي

يشكل القطاع الزراعي في العراق أحد الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني، ليس فقط لكونه مصدرًا مباشرًا للدخل والمعيشة لملايين العراقيين، بل لأنه يمثل أيضًا ضمانة حقيقية لتحقيق الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي. رغم هذا الدور الحيوي، فإن القطاع الزراعي العراقي يعاني اليوم من أزمات وتحديات جمة قد تؤدي إلى فقدان فرص تنموية مهمة إن لم يتم التعامل معها بجدية ومسؤولية.

لا يمكن إنكار أن العراق يمتلك مقومات طبيعية مهمة تؤهله لأن يكون من بين الدول الرائدة في الإنتاج الزراعي، بدءًا من توافر الأراضي الخصبة، مرورًا بشبكات الري التي استثمر فيها العراق عبر عقود، ووصولًا إلى خبرات المزارعين العراقيين الذين ورثوا المعرفة الزراعية عبر الأجيال. ومع ذلك، فإن هذه الإمكانات تواجه تهديدات متزايدة، منها تراجع الموارد المائية بشكل حاد، وهو ما ينعكس على مساحة الأراضي المزروعة وجودة المحاصيل المنتجة.

مشكلة شح المياه ليست بالأمر الجديد، لكنها تزداد تعقيدًا بفعل التغيرات المناخية وزيادة استهلاك المياه على المستويين الصناعي والزراعي، فضلًا عن سوء إدارة الموارد المائية داخل العراق. التصحر الذي يلتهم مساحات واسعة من الأراضي الزراعية لم يكن ليحدث لو توافرت سياسات مستدامة لإدارة المياه والحفاظ على التربة. وبلا شك، فإن أي حديث عن تطوير الزراعة يجب أن يبدأ من هنا، عبر تبني أنظمة ري حديثة وفعالة تقلل من الهدر وترفع من كفاءة استخدام المياه.

التقنيات الزراعية الحديثة، كالري بالتنقيط والطائرات المسيرة للكشف المبكر عن الآفات ومراقبة صحة المحاصيل، لم تدخل بعد بصورة واسعة إلى الزراعة العراقية، رغم الفوائد العديدة التي تقدمها هذه التقنيات في زيادة الإنتاجية وخفض التكاليف. إذ إن الاعتماد على الأساليب التقليدية القديمة يُضعف تنافسية المنتجات الزراعية العراقية في الأسواق المحلية والدولية.

أحد أهم العوامل التي يمكن أن تغير واقع الزراعة في العراق هو دعم القطاع الخاص الزراعي. فالقطاع الخاص يشكل العصب الحيوي الذي يقود الإنتاج ويعزز من ديناميكية السوق الزراعي، ولكن للأسف، يعاني هذا القطاع من عدة معوقات، منها البيروقراطية المعقدة، ضعف التمويل، وغياب الحوافز المشجعة على الاستثمار الزراعي. وفي هذا السياق، يجب على الحكومة أن تعيد النظر في سياساتها لتوفير بيئة استثمارية جاذبة تحفز رجال الأعمال والمزارعين على توسيع نشاطاتهم وتطويرها.

الاستثمار في البحث العلمي الزراعي يعد كذلك من الضرورات الملحة، فهو يوفر حلولًا علمية مبتكرة للتعامل مع المشكلات البيئية والزراعية، ويساهم في تطوير محاصيل تتحمل الجفاف والآفات، ما ينعكس إيجابًا على الأمن الغذائي. ولتحقيق ذلك، من الضروري تعزيز التعاون مع المؤسسات البحثية الدولية ونقل التكنولوجيا الزراعية الحديثة.

لا يمكننا إغفال أهمية التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة، من وزارات الزراعة والمياه والبيئة، لضمان تنفيذ سياسات متكاملة تحقق تنمية زراعية مستدامة. كذلك، من الضروري إشراك المجتمع المدني والقطاع الخاص في صياغة هذه السياسات ومراقبة تنفيذها.

في ضوء ما سبق، فإن النهوض بالقطاع الزراعي في العراق ليس خيارًا بل ضرورة حتمية. القطاع الزراعي قادر على أن يكون محركًا قويًا للاقتصاد الوطني، وأن يحقق الاكتفاء الذاتي الغذائي، ويقلل من اعتماد البلاد على الاستيراد المكلف. ولكنه يحتاج إلى رؤية واضحة، وسياسات فاعلة، وإرادة حقيقية من صناع القرار.

ختامًا، إن إعادة الزراعة إلى موقعها الطبيعي في الاقتصاد العراقي يتطلب منا جميعًا – حكومات، مجتمعًا مدنيًا، ومستثمرين – العمل سوية بجدية وإصرار. فالزراعة ليست مجرد محصول يُزرع ويحصد، بل هي أساس بناء مستقبل اقتصادي مستقر ومزدهر للعراق وشعبه.

لا تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *