بغداد: مصطفى محمد

في ظل حالة اللااستقرار التي تعيشها مناطق آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا؛ حيث تتفاعل التوترات المحلية مع الديناميكيات الإقليمية والعالمية، أبدت دول المنطقة والعالم اهتمامًا متزايدًا بإنشاء طرق جديدة للتبادلات التجارية الدولية العابرة للحدود، بحيث أصبح الشرق الأوسط اليوم ساحةً للتنافس الجيو-اقتصادي بين مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومشاريع أخرى تحظى بدعم الولايات المتحدة، من ضمنها الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي سُلِّطت عليه الأضواء، العام الماضي، بسبب الحرب الدائرة في غزة والهجمات التي شنّتها جماعة أنصار الله على سفن الشحن التجارية في البحر الأحمر، الامر الذي جعل الممرّات التجارية بين الدول مرتبطة أكثر فأكثر بالاصطفافات الجيوسياسية.

وضمن هذا السياق، يشهد العراق، على غرار دول أخرى في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية ومصر وسائر بلدان الخليج، تحوّلًا في الاهتمام نحو المشاريع الكبرى والتجارة العابرة للحدود. هذا ما تشتغل عليه النخبة السياسية، بعد سنوات من الانقسامات الإثنية والطائفية، حيث تبحث عن مصادر جديدة لإضفاء الشرعية على حكمها، فعادت فكرة “التنمية” مجدّدًا إلى صُلب الخطاب الوطني، لكن بطريقة مختلفة عن المساعي التنموية الاشتراكية الشعبوية التي شهدتها مرحلة ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. فالنموذج الجديد أكثر ميلًا نحو الأسواق المفتوحة، ودمج الاقتصادات المحلّية في الاقتصاد العالمي، وتوسيع قطاعات الخدمات. ويرتبط طريق التنمية أيضًا بالاقتناع السائد بأن العراق في أمسّ الحاجة إلى تنويع اقتصاده ومصادر إيراداته لتقليص الاعتماد الكامل على عائدات النفط.

لكن ثمة عقبات عدّة قد تحول دون إمكانية تحقيق مشروع طريق التنمية، تشمل الفساد المستشري، وسوء الإدارة، ومساعي الكتل الحاكمة في العراق للاستيلاء على الدولة ومواردها بأشكال تؤدّي إلى تفكّك مؤسسات الدولة وتقويض قدرة الحكومة على تنسيق عملية التخطيط والتطبيق بشكلٍ دقيق.

على الرغم من أن إيرادات العراق من صادرات النفط تتراوح بين 8 و9 مليارات دولار شهريًا بفضل ارتفاع أسعار النفط، تحوم الشكوك حول قدرة الدولة على تمويل مثل هذا المشروع الضخم وتنفيذه، ولا سيما نظرًا إلى حجم الفساد المستشري على المستوى الوطني واستخدام الموارد لتمويل القطاع العام المتضخم وبرامج الدعم الحكومي العراقي. كذلك، تشمل العقبات احتمال أن يشهد العراق حالةً من انعدام الأمن والاستقرار، ما قد يؤدّي إلى انسحاب المستثمرين الأجانب أو الدول الساعية إلى الاستفادة من طريق التنمية. وتتمثّل العقبة الأهم ربما في أن العراق سيكون مضطرًّا إلى حجز مكانٍ لنفسه وسط مشهد إقليمي يخيّم عليه التنافس الجيوسياسي والجيو-اقتصادي، نظرًا إلى إطلاق مشاريع عدّة تهدف إلى إنشاء ممرّات تجارية، على غرار مبادرة الحزام والطريق الصينية، والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وطموحات إيران لأن تصبح مركزًا للتجارة العابرة للأقاليم.

نعم، في الوقت الراهن، يبدو أن قطر هي الدولة الخليجية الرئيسة المهتمة بالمساعدة لتحقيق تقدّمٍ في هذا المشروع، ويُعزى سبب ذلك جزئيًا إلى التجارب المريرة التي عاشتها خلال الحصار الذي فرضته عليها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين بين العامَين 2017 و2021، ما دفع القيادة القطرية إلى البحث عن طرق بديلة للتجارة. علاوةً على ذلك، تجمع قطر علاقات وثيقة مع تركيا، التي تُعدّ حليفتها الإقليمية الأساسية قبل الحصار وخلاله. وتدعم تركيا بحماس مشروع طريق التنمية لأنه يوفّر طريقًا مختصرًا إلى منطقة الخليج ويلبّي أيضًا طموحات أنقرة لأن تصبح مركزًا للتبادلات التجارية العالمية.

يمكن للإمارات أيضًا أن تكون شريكًا محتملًا، ولا سيما بعد أن طلب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مساعدتها في إدارة ميناء الفاو، الذي يشكّل حجر زاوية هذا المشروع. وقد ينسجم ذلك مع اهتمام الإمارات في تعزيز حضورها في العراق، والحفاظ على موقعها كطرفٍ أساسي في إدارة الموانئ أو الإشراف عليها على مستوى العالم. مع ذلك، قد تكون الإمارات أقل ميلًا إلى المشاركة في المشروع نظرًا إلى احتمال أن يصبح ميناء الفاو منافسًا لموانئها، وإلى النفوذ الذي تتمتّع به المجموعات المسلّحة الموالية لإيران والمعادية للإمارات في العراق.

أما الكويت فتعتبر ميناء الفاو منافسًا لميناء مبارك الكبير في جزيرة بوبيان، الذي أثارت أعمال بنائه المستمرة توتّرات بين العراق والكويت. ولا يُعزى سبب ذلك إلى النزاع حول الحدود البحرية بين البلدَين فحسب، بل إلى وجهة النظر العراقية القائلة إن ميناء مبارك الكبير قد يقوّض حظوظ ميناء الفاو. وقد أدّت هذه الخلافات إلى تعليق العمل في مشروع الميناء الكويتي لفترة من الوقت، إلّا أنّ الحكومة أعلنت في تموز/ يوليو 2023 استئناف أعمال إنجازه.

إن إطلاق مشاريع متنافسة لإنشاء ممرّات جيو-اقتصادية في منطقة الخليج والشرق الأوسط الأوسع، يشير إلى أن هذه المساعي قد تفاقم الخصومات السياسية بدلًا من تحقيق هدفها المُعلن المتمثّل في تعزيز التكامل والتعاون في المجال الاقتصادي. للعراق تاريخٌ حافلٌ بالنزاعات الحدودية مع معظم جيرانه، أسفرت عن حروبٍ وغزوات مع إيران والكويت. لذلك، قد تؤدّي محاولات إعلاء القيمة الاقتصادية للمناطق الحدودية عبر شبكات جديدة من الموانئ والطرق إلى احتدام التوترات الكامنة ونشوب مزيدٍ من الصراعات. لهذا السبب أيضًا قد لا تتحقق أبدًا الآمال الكبيرة المعلّقة على مشروع طريق التنمية.

لا تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *