مظهر محمد صالح
شهد الاقتصاد العراقي خلال السنوات الماضية تداخُلًا معقدًا بين السياسة المالية والنقدية، حيث اضطلع البنك المركزي بأدوار مالية مباشرة، من تمويل العجز الحكومي إلى استقرار السوق، مما أدى إلى إضعاف بعض أدوات السياسة النقدية وتداخل واضح في الأدوار بين السلطتين.
في اقتصاد ريعي يعتمد بدرجة كبيرة على النفط كمصدر رئيس للإيرادات، تبرز إشكالية التوازن بين صلابة التكيف المالي، التي تُركز على تعظيم الإيرادات غير النفطية، ومرونة التكيف النقدي، التي تُترجم في قدرة السياسة النقدية على تمويل العجز عبر التضخم أو ما يُعرف بالتمويل النقدي غير المباشر للميزانية العامة. ويظهر هذا من خلال آليات مثل خصم السندات والحوالات الحكومية، حيث غالبًا ما تجد السياسة المالية نفسها مقيدة بمتطلبات إنفاق عام متضخم، وضعف تنويع الإيرادات، وارتفاع الالتزامات الاجتماعية والسياسية، مما يجعلها أقل قدرة على التكيف مع الصدمات الاقتصادية، خصوصًا التقلبات في أسعار النفط.
في المقابل، تُترك السياسة النقدية ممثلة بالبنك المركزي وحدها لتحمل عبء مواجهة تداعيات هذه الصدمات عبر أدوات محدودة مثل تعديل سعر الصرف، ضخ السيولة، أو التدخل في سوق العملة، رغم ضيق هامش المناورة المتاح لها. ويُعد هذا نموذجًا شديد التعقيد للتداخل أو حتى التعارض بين السياسات المالية والنقدية.
لكن المرحلة الراهنة تشهد تحولًا نوعيًا في موازين القوى بين هاتين السياستين، وهو ما يمكن وصفه بالهيمنة النقدية الناعمة (Soft Monetary Dominance)، حيث لا تكون الهيمنة مطلقة أو صارمة، بل تتم بشكل تدريجي ومرن مع وجود درجة من التنسيق مع السياسة المالية، دون أن تفقد السياسة النقدية استقلالها القانوني الذي يكفله قانون البنك المركزي رقم 56 لسنة 2004.
بعد سنوات من الهيمنة المالية التي اعتمدت على الإنفاق الحكومي الممول بشكل رئيس من عائدات النفط، بدأت تظهر ملامح مرحلة جديدة يُبرز فيها دور البنك المركزي كمحور رئيسي لضبط التوازنات الاقتصادية الكلية، لا سيما عبر أدوات السياسة النقدية. وقد حافظ البنك على استقلالية نسبية في التحكم بالتضخم وإدارة سعر الصرف، مع تنسيق مدروس مع الجهات المالية لضمان استقرار السوق وتجنب الركود، إلى جانب تغطية الاحتياجات التمويلية الضرورية للمالية العامة دون المساس بفعالية السيطرة النقدية.
يتجلى هذا التحول في انضباط استقلالية البنك المركزي في رسم سياساته المالية والنقدية، وخاصة تقنين تمويل العجز المالي من خلال التوسع النقدي، إلى جانب تبنيه إجراءات صارمة في بعض الأحيان ومرنة في أحيان أخرى لضبط السيولة العامة والسيطرة على التضخم، حتى وإن تعارض ذلك مع الأهداف التوسعية للإنفاق الحكومي.
لا تعليق